كثيرا ما نسمع الطلاب والأهالي يتساءلون ويطلبون النصح لاختيار موضوع تعليم مطلوب لسوق العمل، فنرى الأسئلة تتزاحم حول الموضوع:
هل هناك عمل لهذه المهنة؟ هل السوق بحاجة لهذه المهنة؟ أو أريد إختيار مهنة تمكنني من العمل فيما بعد؟ الأهل، الأقارب والمعلمون يحاولون مساعدة الفرد منا، حيث يوجهونه لاختيار مهنة مطلوبة في سوق العمل. طبعاً بمنظورهم، لا تتعلق القضية بفحص معطيات إحصائية أو معطيات أخرى تعطي مدلولات عن المهنة المستقبلية.
سأشير في هذه السطور إلى تساؤل واحد في هذه القضية؛ " هل الإختيار المجبر يعد إختياراً؟!" تاركاً المفارقات المنطقية في "عملية الإختيار القهرية" حسب متطلبات سوق العمل، والخوض في المعاني العميقة التي تحملها كلمة "إختيار".
لا أنكر على أحد منكم حقه في العمل، وأعي تماما أهمية الحصول على عمل بعد الحصول على التأهيل المهني سواء كان أكاديميا أم حرفيا. لكن يجب الفصل التام بين عملية إختيار المهنة وسوق العمل، وسأتطرق للأسباب التي تجعل مسار إختيار مهنة لا يرضخ لسوق العمل كمركب أساسي.
من أهم مواصفات سوق العمل، الديناميكية وعدم الإستقرار، فتارةً تجد طلبا كبيرا لمهنة معينة وطلبا ضئيلا لمهنة أخرى، ولا تلبث هذه المعطيات أن تتبدل بعد فترة قصيرة من الزمن ليتغير الوضع وربما يصبح معكوساً تماماً. على سبيل المثال، الطلب الكبير الذي كان في البلاد في نهاية التسعينيات وبداية سنوات الألفين لمواضيع التكنولوجيا المتطورة، ثم الهبوط الحاد للطلب في هذا المجال ليصبح الكثيرون عاطلين عن العمل.
المعطيات الإحصائية لسوق العمل تتحدث عن المعطيات التي جُمعت على الأغلب من السنة السابقة على الأكثر من تاريخ عرضها، بينما الشخص الذي سيختار المهنة، سيزاول عمله في هذه المهنة بعد تأهيله ودراسته التي تستمر فترة من الزمن، حيث تفقد المعطيات التي إعتمد عليها في إختيار مهنته أهميتها ومناسبتها للفترة التي يبحث فيها عن العمل، لذلك لا يمكن الإعتماد على هذه المعطيات في حالة إختيار المهنة. إلا اذا ضمن بأن العالم ثابت ولن يتغير. ومعه تبقى هذه المعطيات واردة. تصلح هذه المعطيات الإحصائية للتخطيط المؤسساتي وليس التخطيط من أجل إختيار مهنة الفرد.
لا تتعلق المتغيرات التي تحدد سوق العمل بالفرد، وإنما تتعلق بعوامل مركبة وخارجة عن سيطرة الفرد. هي بمجملها عوامل سياسية، إجتماعية وجغرافية. مثال على ذلك، الزلزال المدمر الذي وقع مؤخرا في جنوب شرق آسيا، فهو يمثل عاملا جغرافيا مهما، أتى هذا الزلزال ليغير معالم الأقطار التي وقع فيها، والأقطار المحيطة بها أيضا. مثال آخر يندرج تحت العوامل السياسية وهو يتمثل بإتفاقيات السلام التي أبرمت بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي أدت إلى فترة قصيرة من الرفاه الإقتصادي والحديث عن مشاريع كبرى سرعان ما إندثرت.
عندما نتحدث عن سوق العمل، يجب رؤية حدود السوق الذي نتحدث عنه، هل هو القرية أو المدينة التي أسكن بها؟ ما هو المدى الأقصى للمسافة التي يمكن أن يكون مكان عملي ضمنها؟ هل إغترابي للعمل في دولة أجنبية وارد في الحسبان، أم أنني مستعد فقط للعمل في الدولة التي أسكن فيها؟
وفق الأسباب التي أوردتها سابقا، نرى بأن سوق العمل مركب غير ثابت وغير واقعي من أجل إعتباره مركبا أساسيا في عملية إختيارنا للمهنة. من هنا تأتي الرؤية المهنية في مسيرة إختيار المهنة والتي تعتمد وترتكز على معطيات أكثر ثباتا لدى الفرد، مثل مركبات شخصية الفرد، ميوله، قدراته و إحتياجاته المختلفة في إختيار مهنته. وطبعاً آخذين بعين الإعتبار بأن الفرد سيجد عملا في هذه المهنة التي اختارها. وتوسيع آفاق الرؤيا لسوق العمل دون تحديده ليكون المكان القريب لمكان السكن، مع العلم بأن هذا إعتبار مهم لبعض الأشخاص في إختيار مهنتهم.
من المحبذ جداً ترسيخ إيمان الفرد بذاته، قدراته وتبني رؤيا متفائلة في إيجاد عمل في المهنة التي سيختارها الفرد، عوضا عن توجيه إختيار الفرد بناءً على المعطيات الإحصائية حول سوق العمل اليوم، لأن إكتفاء الفرد من عمله لا يعتمد على إيجاد فرصة عمل فقط، وإنما من الملاءمة بين معطيات الفرد والإحتياجات التي توفرها المهنة لهذه المعطيات.